الدكتور محمد مصطفى القاضي يكتب: داخل الصندوق
“لماذا لا تحترم الخطوط البيضاء التي تقسم الشارع” هكذا همست إلى سائق التاكسي الذي كنت بجواره عندما لاحظت أنه يجعل الخط في منتصف السيارة، فجاء رده أنه يحترمه تمامًا وأنهم رسموا هذا الخط كي تسير عليها السيارة وليس بين الخطوط، ولم يقف عند هذا الحد بل أكد أن طبعًا هذا التصور أكثر منطقيةً من أن يسير بين الخطوط، ولم أجرؤ على سؤاله لمن تكون أولوية عبور الميدان؟، هل هي لمن بداخله؟ أم لمن يستعد لدخوله؟ حيث تذكرت فجأةً أن هذا السؤال قد لا يعرف إجابته ٩٩% من المصريين، وانا شخصيًا كنت لا أعرفه حتى تعرضت لتجربة القيادة خارج مصر.
كنت قد قررت سابقًا أن أتوقف عن مناقشة البديهيات حفاظًا على طاقتي وسلامي الداخلي، حتى وجدت أن مناقشة البديهيات تكاد تكون واجبًا إنسانيًا ومجتمعيًا على كل متخصصٍ أو متعلمٍ أو مثقفٍ.
“إنهم لا يعلمون أنهم لا يعلمون”.. تلك النتيجة التي وصلت لها عندما قال لي أحد العملاء (مطور عقاري) ما تعملنا يا دكتور دراسة جدول للمشروع -يعني حطلنا كده المشروع في جدول- وتأكدت أننا لا يجب أن نناقش تفاصيل أو تقنيات متقدمة في دراسات الجدوى على قدر ما يجب أن نتفق أولًا على تعريفها هل هي دراسة جدوى أم دراسة جدول؟!
حتى هذه اللحظة لم أكن متأكدًا من كوني على استعداد لمناقشة البديهيات حتى صرت أسمع كلمة “محتاجين أفكار خارج الصندوق”، بينما الصندوق مليء بالأفكار التي نتجاهلها، هنا تأكدت أننا يجب أن نفكر أولًا داخل الصندوق فإن أغلب مشاكلنا تنتج عن عدم الاستعانة بالمتخصصين أو غير المؤهلين، مما ينتج عنه عدم اتباع القواعد والأساسيات البدائية للمشكلة والحل التي غالبًا ما تُدرس للطلبة في الصف الثاني أو الثالث في الكلية.
وقد لا يعلم البعض أساسًا أن هذه البديهيات تُدرس وأنها علمٌ بسيطٌ للغاية ناتج عن دراسة حالاتٍ مشابهةٍ وتحليلها والتعلم منها، إن مصر تشهد نشاطًا استثنائيًا في مجال العمران مما يجعل كثيرًا من المتخصصين في العمارة بجميع مجالاتها من التصميم والتخطيط العمراني والحضري والبيئي والعمارة الخضراء وغيرها من المجالات العمرانية المتعددة يوجهون بعض الانتقادات لأي مشروع ومالا يعلمه البعض من غير المتخصصين أن كثيرًا من هذه النقاط هي نقاط بسيطة ويتم تدريسها للطلبة في الصفوف الأولى من تعليمهم المعماري وليست نقاطًا بالغة التعقيد، مثال ذلك تجديد وتطوير المناطق العشوائية ومداخل التعامل معها، الإسكان الشعبي في الستينيات والسبعينيات مشاكله وحلوله كنا ندرسها في أول محاضرات مادة الإسكان في الصف الثالث في قسم عمارة مما يجعل رصد وتحليل المشروعات الحالية عملية بسيطة لأي متخصص.
إن قضايا الحفاظ الحضري وقضايا التنسيق العمراني وتصميم الفراغات العامة وأهميتها هي مواد أساسية يتم دراستها في الكليات المتخصصة في العمارة والتخطيط وليست علوم متقدمة أو معقدة أو أبحاث شديدة التخصص، ولكن تأثيرها يمتد ليؤثر علي حياة مجتمعاتٍ كاملةٍ ويغير من بنيتها الثقافية والحضارية والاقتصادية.
إن بعض الموضوعات العمرانية مثل دراسة الأثر البيئي والمروري لأي مشروع قد تكون في بساطة أن تشاهد على التليفزيون فيلم عن تشييد جزيرة النخلة في دبي حتى تعرف مدى أهمية دراسة الأثر البيئي (رغم التحفظات الكبيرة على المشروع) والملايين التي تكلفتها هذه الدراسة قبل أن يشرعوا في ردم مترٍ واحدٍ من الخليج، مما يوضح لنا أهمية عمل هذه الدراسات وعرضها على لجان تحكيم متخصصة قبل البدء في تنفيذ بعض المشروعات ذات الأثر المتراكم على البيئة والمجتمع.
وهنا اتضحت الصورة بالنسبة لي، أننا حرفيًا “لا نعلم أننا لا نعلم”، ويجب أن نتحدث ونوضح للناس غير المتخصصين ما بداخل الصندوق أولًا حتى نستطيع أن نفكر ونبدع خارج الصندوق بدلًا من محاولات اختراع العجلة.
وبناء على ذلك كله سوف نبدأ سلسلة من المقالات واللقاءات التي تشرح ما بداخل الصندوق أولًا لعلنا نساهم في التأكد أولًا أننا لا نعلم ومن هنا نبدأ الطريق حتى نتعلم.
إلى اللقاء مع “العقار داخل الصندوق”