الدكتور مصطفى القاضي يكتب: العَقَار -داخل الصندوق
يمثل هذا المشهد الكوميدي العبثي ما حدث حرفيًا في سوق العقار عندما حاولت الدولة في الأعوام الأولى لثورة يوليو 1952 التدخل لصالح المستأجرين بتخفيض الإيجارات في إطار محاربة الإقطاع ورأس المال المستبد لصالح المواطن البسيط، بينما كان لا يوجد سبب منطقي لدى الفنان سمير غانم ليوسع الجاكيت عند تقصير البنطلون كان هناك أسبابًا منطقية لحدوث تحولات راديكالية في سوق العقار نتيجة قرارات سياسية غير مدروسة.
هل يعلم المواطن البسيط القاطن في ربوع المحروسة في نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين أن سبب عدم حصول ابنه المتخرج حديثًا على شقة أو عدم قدرتة هو شخصيًا على الانتقال إلى شقة أوسع أو أخرى في مكان قريب من مكان عمله قد يعود ذلك إلى قرارات سياسية اتخذت في الخمسينيات واستكملت في الستينيات؟ وهو ما يطلق عليه “تأثير الفراشة” لكنها في الحقيقة لم تكن فراشة ولكن فيلًا ضخمًا محملًا بالقوانين والقرارات التي أتت في صالح المواطن المصري في ذلك الوقت من وجهة نظر الدولة.
في أكتوبر 1952، وبعد شهور قليلة من قيام ثورة يوليو، صدر القانون رقم 199 لسنة 1952 بتخفيض القيمة الإيجارية للوحدات السكنية بنسبة 15% وتبعه سلسلة من القوانين التي تطرح مزيدًا من التخفيضات بقيم متزايدة على الإيجارات، وهو ما كان بمثابة عدوانًا على آليات السوق وتغييرًا في بنيته الراسخة عبر عصور سابقة.
كانت آليات الإسكان في المدن في مرحلة ما قبل ثورة يوليو تعتمد على نموذج البناء الإيجار، حيث كان من مظاهر الوجاهة الاجتماعية وأحد أوجه الاستثمار في مصر هو بناء عمارات سكنية بمختلف الفئات والأحجام وكانت تشكل نموذج أعمال ناجح حيث كان العائد الإيجاري يتناسب مع رأس المال في معادلة مربحة ولم يكن هناك وجود حقيقي لنموذج التمليك، مع ضعف دور الدولة في توفير الإسكان للشعب واقتصاره على فئات محددة.
وكان نموذج الإيجار يلقى قبولًا اجتماعيًا، حيث كانت الأسرة المصرية المتوسطة تدفع نسبة قليلة من دخلها الشهري مقابل الإيجار، وكان من الطبيعي أن تنتقل الأسرة من منزل إلى منزل آخر حسب الظروف الاجتماعية والأسرية، وكانت من المظاهر الطبيعية أن ترى لافتة شقه للإيجار منتشره في أنحاء المدينة.
وكان من الممكن أن يعاني البعض من ارتفاعات متباينة في القيمة الإيجارية نتيجة تغير الظروف الاقتصادية الخاصة، لكن ارتفاع القيمة الإيجارية لم يكن يشكل ظاهرة اجتماعية ضاغطة، ولكن كان السوق العقاري و السكن عمومًا يقع في قبضة فئة واحدة تتمثل في طبقة الملاك أو الإقطاعيين طبقًا للمصطلحات الرسمية في ذلك الوقت، ولم تكن هناك برامج لتوفير حق السكن للمواطنين سواء في المدن أو الريف.
ثم ما لبث أن حدث انسحابًا تدريجيًا لطبقة المستثمرين سواء بسبب إجراءات التأميم المستمرة أو انخفاض القيم الإيجارية بحكم القانون أو عدم تفضيل الدولة بصورة عامة للقطاع الخاص، مما جعل نموذج الاستثمار في العقارات السكنية أقل جاذبية، ولم يشكل هذا الانسحاب انحسارًا لفرص المواطن في الحصول على السكن فقط ولكن شكل ضغطًا عكسيًا على الحكومة في ذلك الوقت لمعادلة الطلب المتزايد على السكن وتعويض خروج القطاع الخاص من منظومة الإسكان فبعد أن كان إنتاج القطاع العقاري السنوي يقترب من 52 ألف وحدة سكنية سنويًا في بداية الخمسينيات انخفض في منتصف الستينيات إلى ما يقترب من 32 ألف وحدة سنويًا، بانخفاض يتعدى 38%.
واكتمل تأثير الفراشة (أو الفيل) بظهور مشروعات الإسكان الشعبي ذات الشكل المتماثل والمساحات المحدودة ونمط التخطيط التكراري وأصبحت البديل الحكومي لمناطق جاردن سيتي والمعادي والعجوزة والمنيرة ومصر الجديده ومنيل الروضة، وأصبحت نبتًا دخيلًا على العديد من المناطق السكنية ذات الخصائص الاجتماعية المتباينة. وكان هذا التحول في ديناميكيات الإسكان بمثابة شرارة البدء لظهور المناطق العشوائية في أطراف القاهرة وعواصم المحافظات بشكل عام نتيجة اجتهاد المواطنين في إطار محاولة انتزاع حقهم الطبيعي في السكن ونتيجة موجات الهجرات المتتالية من الريف للمدينة للبحث عن فرص أفضل للحياة تحت أضواء المدينة.
إن تأثير القرارات السريعة التي قد تفتقر إلى حد معقول من الدراسات المتأنية قد يكون كفيلًا بإحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية وبيئية وميلاد ظواهر مجتمعية وإحداث تحولات في قيم المجتمع وتغيير في بنيته وطبقاته، فبعد أن كانت الطبقة المتوسطة تسكن في مناطق متجانسة قد تكون شعبية بتعريفاتها المختلفة ولكنها ليست مناطق عشوائية مغمورة بأخلاقيات الزحام وسلوكيات متشبعة بالعشوائية والخروج من تحت مظلة المدنية والتحضر، إن التخطيط العمراني والعمارة والإسكان من المجالات الأشد ارتباطًا بالإنسان والأسرة والمجتمع وما قد يغيرونه أو يرسخونه أعمق من أن تحكمه جرة قلم غير متخصص.