محمد مصطفى القاضي يكتب: مجتمع المية في المية والزعيم الخالد
تمتلئ السماء في شهر يوليو من كل عام بترانيم الحركة المباركة في1952، نستعيد ذكريات يوليو بسلسلة من الأفلام والأغاني التي تبدأ بحكاية شعب:
“قلنا هنبنى و آدى احنا بنينا السد العالى”
وتنتهي بموال النهار ،
“عدى النهار
والمغربية جاية
تتخفى ورا
ضهر الشجر
وعشان نتوه فالسكة
شالت
من ليالينا القمر
وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جانا نهار ماقدرش يدفع مهرها
يا هل ترى الليل الحزين
أبو النجوم الدبلانين
أبو الغناوى المجروحين
يقدر ينسيها الصباح”
بينما نستمتع بهذه الأغاني والذكريات والروايات نزداد فخرًا وعزه ونحن نستمع إلى مقتطفات من خطب الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، الذي طالما صال وجال وأبدع في وصفه للشعب المصري الذي اختار الحرية، بينما استمتع بأحدى هذه الخطابات انتبهت إلى مقولته “إن الشعب اختار مجتمع المية في المية بدلا من مجتمع النص في الميه، المجتمع الذي يحصل فيه الجميع على حقوقه وليس فقط النصف في الميه”، هكذا أكد الزعيم الخالد علي هذا الاختيار، وبدأت في التساؤل هل تحقق هذا الهدف أو الإختيار في أي لحظه من لحظات التاريخ المصري الحديث؟
أولا دعونا نتفق على تعريف الحقوق الأساسية الذي اختار الشعب أن يحصل عليها في ذلك النسق التاريخي، اعتقد أنها قد تكون التعليم المجاني المناسب للجميع، أو التأمين الصحي العادل، هلي هي منظومة العدالة، هل يكون حق السكن أحد هذه الحقوق، لست متأكدا من مفهوم هذه الحقوق في ذلك الزمان، ولكني متأكد إنه لم تجتمع أياً من هذه الحقوق لجميع الشعب في أي وقت من الاوقات.
عندما توفر التعليم المجاني الجيد لم تكن هناك منظومة تأمين صحي في كل الكفور والنجوع، حتى لو توفرت اغلب هذه الحقوق إلى منتصف الستينات، فقد جاءت النكسة لتنهي هذه الحقوق وتهمشها لصالح قضية الوطن التي لا خلاف على اولويتها، وما لبثت أن هدئت الأمور وتوجهت الدولة للتنمية في بداية الثمانينات حتي تخلت عن دورها في التوظيف والتعليم والصحة والسكن وأصبحت الدولة تتبع نظاما “الرأسماكية” وهو نظاما هجيناً ما بين اليمين واليسار، ما بين الاشتراكية والرأسمالية، كنا نسمع عن التسعيرة الجبرية ونسمع عن اقتصاد السوق، تحرير الأسعار ودعم السلع، دستور ينص علي اشتراكية الدولة ولكننا ندعم السوق المفتوح ونشجع الاستثمار، ولا حديث تقريبا عن الحقوق الأساسية التي اختارها المواطن.
كان يشغل بالي سر تسمية الرئيس جمال عبد الناصر بالزعيم الخالد، وكنت كطفل أتخيل إن ذلك بسبب اسم ابنه خالد جمال عبد الناصر مثلما تم تسمية مدينة نصر مشتقه من عبد الناصر، واستطعت أن أفهم أن أعماله، ورؤيته واثرهم بسلبياتهم وايجابياتهم هم الخالدين، بينما أستطيع أن اجزم الأن إن مفهوم الخلود قد يعود علي أهداف الثورة ومطالب الشعب التي يبدو أنها ستظل مطالب خالده ولا تتحقق أبدا، يبدو أن الخلود يعود علي الطلب الذي لن يتحقق وليس الحقوق ذاتها.
هل يمكن أن تصبح حقوق الشعب من تعليم وسكن وصحه هي الحقوق الخالدة وليست المطالبة بها هي الخالدة، اعتقد أنه حتى المطالبة بهذه الحقوق قد اختفت، واصبح الطموح هو توفير ثمن الطعام والمواصلات، وأن تحصل على كهرباء لا تنقطع ومياه متوفرة مع عدم المساس بالأوكسجين وفرض ضريبة علي الهواء.
أحلم باليوم الذي نصحو فيه علي نقاش حول منظومة التامين الصحي بين الاقتصاديين والأطباء ولا نجد النقاش في الجلسات الخاصة عن ارتفاع الأسعار ولكن عن تطوير هذه المنظومة، هل يمكن أن نرى مؤتمرات وجلسات وندوات تدرس تطوير التعليم وتخرج بدستور عمل تكلف به الوزارة أيا كان اسم الوزير، هل نري حق السكن مكفولًا لكل شاب بعد التخرج ونرى كل المطورين العقاريين يعملون لتوفير مئات الالاف من الوحدات السكنية كل عام وتسلم للشباب عند وصولهم لسن الزواج.
أحلم باليوم التي تصبح فيه تحقيق هذه الحقوق هو الهدف الاسمي التي تعمل على تحقيقه الدولة والحكومة والشعب، احلم بمجتمع يعمل ويكد ويصل الليل بالنهار، بالعقول المصرية تبدع لتوفير الحقوق الأساسية لكل مواطن وتصبح هذه الحقوق هي الخالدة. أحلم بمجتمع المية في المية يعملون ويحققون بيدهم حقوقهم الأساسية احلم بشعب يحيا على الامل والحلم والرغبة في الحياه.