كان عام 1966 مثل أي عام في فترة الستينات، عاماً مليئاً بالخطب الحماسية والانجازات الصناعية والزراعية والأحلام والآمال بمستقبل مشرق وغدٍ براق، وقد اعتادت العائلة قضاء شهور الصيف في مدينة بورسعيد، أيام وليالي مليئة بالبهجة والمتعة، نهاراً شاطئ البحر المشمس مع وجبه الغداء العامرة بالأكل البيتي المصري الدسم، وأقفاص الفاكهة الطازجة التي بالكاد تكفي الأولاد السته وأعمامهم، وكان الابن الاكبر طالب الهندسة الميكانيكية واصلاً لتوه من التدريب الصيفي بألمانيا، حيث تدرب علي أحدث الطرق في العالم لتجميع السيارات الحديثة، وما لبث أن قضي بضعة أيام حتي بدأوا في لملمة اشيائهم واللحاق بالسيارة التي استأجرها والدهم وبدأوا رحلة العودة للقاهرة للحاق بالعام الدراسي الجديد، وبينما تسير السيارة متخطية شوارع بورسعيد كان الجميع يختلسون النظر إلي السوق القديم والشوارع الزاخرة والعامرة بالناس الطيبين والبضائع المزدهرة آملين في العودة مثل كل سنة.
كم كان جيلاً محظوظاً، مشحوناً بالوطنية والأحلام والآمال في مستقبل مبهر.
في 17 أكتوبر 1968 بعد أن أنهي عامه الأخير في الجامعة يستلم الابن الاكبر بطاقة التجنيد مشاراً فيها إلي خانة مدة التجنيد عبارة “حتي إزالة آثار العدوان”، أياماً ثقيلة كئيبة ألقت بظلالها علي الجميع، بينما يفكر الابن الاكبر في مستقبله وكيف سيقضي اعواماً غير معلومة في وضع لا يستطيع فيه ممارسة عمله وهوايته وهي الهندسة الميكانيكية، وينظر كيف تحول المستقبل من السفر إلي المانيا والعمل في أحدث مصانع العالم إلي مجند يؤدي دوراً بسيطاً لعدد غير معلوم من السنين في بلد مهزوم ووطن مريض.
يا له من جيل سيئ الحظ.
وظل يفكر كيف يشارك في معركة تحرير الارض بصورة أكثر ايجابية، ولم يتردد في الالتحاق بالدفعة الاستثنائية بالكلية الحربية، شهوراً سته تخرج بعدها الابن ضابطاً عاملاً في القوات المسلحة ملتحقاً بورش الأسلحة والذخيرة يعمل علي تركيب نوع ما من المدافع علي إحدى أنواع المركبات، مستخدماً أدوات اللحام بيده لمدة 12 ساعه كل يوم ويعود إلي البيت حتي تعالج والدته التهاب عينيه من أثر اللحام لفترات طويله، ولكن نظرة السعادة بعد انتهاء تركيب كل مدفع وإرساله إلي الجبهة كانت كفيلة ببث لحظات من النشوة التي تكفي لنسيان الأحلام الفردية.
كم هو جميل أن تشعر أن لعملك هدفاً أسمي، كم هو محظوظ هذا الجيل.
مرت الأيام وجلس الابن الاكبر وسط أولاده وأحفاده يقص عليهم لحظات العبور كيف كان نداء الله أكبر يملأ السماء من حولهم، كيف كان يخوض وسط المعارك لسحب المعدات المدمرة والمعطلة ويعمل علي إصلاحها وتجهيزها لتعود إلي الجبهة في أسرع وقت، مزيلاً أشلاء الجنود الشهداء من علي المدافع والتي قد تكون لبعض أصدقائه بدون لحظة تفكير أو خوف من أن يلقي مصيرهم، كان يصف لأحفاده كيف كانت روحهم المعنوية في حصار الثغرة بين الإحباط والامل وكانت تدمع عيناه وهو يصف طعم الخبز الطازج الذي تم خبزه علي كبوت سيارة جيب محطمة عندما سمح العدو لهم ببعض الدقيق قائلاً إنه أحلى خبز أكله في حياته، كيف كان العدو يرى روحهم المعنوية العالية ويعمل على تحطيمها ويرسل طائرات تحلق فوقهم وتتظاهر بإلقاء القنابل عليهم في فترة وقف إطلاق النار حتي تقضي على روحهم المعنوية.
تدخل والدته لتقص عليهم قصة عودته من الحصار حيث عاد جميع أصدقائه بدونه، بينما كان هو في الفوج الاخير، وكيف فقدت الوعي عندما رأتهم من شباك منزلها قادمين من أول الشارع بدون ابنها الأكبر، ليقسموا لها أن ابنها سليم وسيعود بعد أيام.. ووسط الاستقبال الحافل بالبطل العائد من المعركة في مشهد تكرر كثيراً في الشوارع المصرية في ذلك الوقت كان لا يدور بباله غير نظرة السخرية والتهكم بعد النكسة وكيف تحولت لفرحة وعزة وكرامة.
يا لها من لحظات..
يا له من جيل..
يا له من حظ..
لديهم ما يحكونه لأولادهم وأحفادهم بكل فخر..
شكراً لجيل “حتي إزالة آثار العدوان”..
شكراً للذين عبروا مخلصين لوجه الله تعالى..
شكراً لوالدي رحمة الله عليه..