«التصالح في مخالفات البناء».. التنفيذ في مواجهة القانون

منذ صدور قانون التصالح في مخالفات البناء، رقم 17 لسنة 2019، لم يتوقف الجدل حول مدى قدرته على حل أزمة العقارات المخالفة، التي تراكمت على مدار عقود، فبينما جاء القانون كخطوة لتقنين الأوضاع، وتخفيف الضغط عن ملايين المواطنين، إلا أن التطبيق العملي كشف عن عوائق إجرائية وقانونية، دفعت الحكومة إلى إجراء تعديلات متتالية أعوام 2020، 2023، و2024، لمحاولة تيسير الإجراءات وسد الثغرات التي ظهرت مع التنفيذ.

تعديلات غير كافية

استهدفت التعديلات تبسيط إجراءات التصالح، تسهيل السداد، وتقليل المستندات المطلوبة، كما تضمنت استثناء بعض المخالفات المرتبطة بقانون البناء الموحد، ومع ذلك، لاتزال العقارات المبنية في القرى والمناطق الريفية قبل 2020، مستثناة من التصالح، فيما يظل الباب مفتوحًا أمام تقنين أوضاع باقي العقارات المخالفة، بما فيها المخالفات السابقة لقانون البناء الموحد.

ورغم أن القانون جاء لكبح فوضى البناء العشوائي وتقنين المخالفات، إلا أن الواقع يكشف عن استمرار التعقيدات، مما يجعل التساؤل مطروحًا: هل حقق القانون أهدافه أم أنه يحتاج إلى تعديلات جديدة؟

3 ملايين طلب

بحسب إحصاءات رئاسة مجلس الوزراء لعام 2024، تم تقديم أكثر من 3 ملايين طلب تصالح، مما يعكس حجم التفاعل مع القانون، لكن المفاجأة أن نسبة الطلبات التي استكملت إجراءاتها لم تتجاوز 4% فقط، مما يثير تساؤلات حول أسباب تعثر التنفيذ.

ورغم ضخامة الرقم، إلا أن طلبات التصالح لا تعني 3 ملايين وحدة سكنية أو 3 ملايين مواطن، بل تشمل عقارات بأكملها، يضم بعضها عشرات الوحدات، مما يجعل القضية تمس أضعاف هذا الرقم .

شهادة نائب في البرلمان

في ظل هذه التحديات، وصف النائب إيهاب منصور، وكيل لجنة القوى العاملة بمجلس النواب، القانون بأنه “فشل” في تحقيق أهدافه، مرجعًا ذلك إلى الإجراءات المعقدة والبيروقراطية.

وأكد “منصور”، أن هناك بنودًا تحتاج إلى تعديل جوهري، أبرزها: إعادة النظر في الأحوزة العمرانية، وتوضيح نطاق “القريب”، تسهيل إجراءات إصدار نموذج 10 ونموذج 8، اللذين يمثلان عقبة أمام استكمال التصالح، إيجاد حلول لمشكلات صب الأسقف والجراجات.

وشدد على أن معالجة هذه الملفات قد تحل 80% من مشكلات القانون، مما يتيح تحصيل 200 مليار جنيه للدولة، ويسهم في تحقيق الهدف الأساسي من التصالح، وهو تقنين الأوضاع وضخ سيولة مالية للموازنة العامة.

عبث بالعمران

ويرى الدكتور محمد مصطفى القاضي، الخبير العمراني، أن القانون الحالي لا يعالج المشكلة من جذورها، بل هو مجرد “ترقيع لثوب ممزقة و”عبث بالعمران” في المدن الجديدة والقرى والمراكز، مؤكدًا أن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى مزيد من العشوائية العمرانية بدلًا من ضبط المخالفات والحد منها.

مخالفات تتحول إلى أمر واقع

ويضيف “القاضي” للقرار المصري، أن النهج الحالي يعتمد على مبدأ “المخالفة أولًا ثم التصالح”، مشيرًا إلى أن مدينة نصر تعد نموذجًا حيًا لهذه الأزمة، حيث تحولت من منطقة كانت تضم فيلات وعمارات محدودة الطوابق إلى “غابة خرسانية”، مؤكدًا أن المتاجر والسيارات والسكان زادوا بشكل يفوق قدرة البنية التحتية، ما تسبب في اختناق عمراني واضح.

من الأراضي الزراعية إلى العشوائيات

ولا تقتصر المشكلة على المدن الكبرى، بل تمتد إلى المناطق الريفية أيضًا، إذ يؤكد “القاضي”، أن ثروة مصر من الأراضي الزراعية تحولت إلى خلايا سرطانية من العشوائيات، محذرًا من أن استمرار البناء العشوائي على حساب الرقعة الزراعية يمثل تهديدًا خطيرًا لمستقبل الأمن الغذائي في البلاد.

محاولة لتحصيل الغرامات!

ويطرح “القاضي”، تساؤلات حول جدوى الإزالات في ظل قرارات التصالح، قائلًا: “إذا كان التصالح مقبولًا، فلماذا كان الهدم وإزالة المخالفات من البداية؟ لماذا أُهدرت الأموال والمجهود والوقت في إزالة بعض التعديات ثم عادت الدولة للتصالح مع أخرى؟”، معتبرًا أن ما يحدث ليس سوى “محاولة لتحصيل أكبر قدر ممكن من الغرامات على حساب الواقع العمراني، ورضوخًا لمصالح بعض الفئات”.

ثقافة المخالفات مستمرة

ويشير “القاضي”، إلى أن ثقافة البناء المخالف أصبحت أمرًا متوقعًا، حيث “صار من الطبيعي أن يطلب المالك من المهندس أن يضع في اعتباره زيادة دور أو دورين عن حدود القانون، انتظارًا لقرارات لاحقة تسمح بالتعلية، وهو ما يعكس استمرار التعامل مع القانون كعائق يمكن تجاوزه لاحقًا، بدلًا من الالتزام به لتنظيم العمران بشكل مستدام

أزمة ملف الجراجات

من بين التحديات الكبرى التي تواجه التصالح، لا يزال ملف الجراجات يمثل إحدى العقبات الرئيسية، فبينما كان القانون رقم 17 لسنة 2019 يرفض التصالح على مخالفات الجراجات بشكل قاطع، جاءت التعديلات اللاحقة لتسمح بدراسة بعض الحالات، دون وجود حلول نهائية حتى الآن.

وأكدت مصادر حكومية أن هناك طلبات تصالح كثيرة تتعلق بالجراجات، خصوصًا تلك التي تعود لفترة ما قبل صدور القانون في 2019، وهو ما يتطلب معايير واضحة للفصل بين الجراجات القابلة للتصالح وتلك المحظورة.

وفي هذا السياق، أكدت محافظة القاهرة أنها لا تعرقل أي طلبات تصالح، بل تعمل على تيسير الإجراءات للمواطنين، باستثناء بعض الحالات التي تتطلب تنظيمًا إضافيًا، مثل ملف الجراجات، والذي من المنتظر أن تصدر وزارة التنمية المحلية كتابًا دوريًا بشأنه خلال الأسبوع المقبل، إلى جانب تحديث ضوابط تقارير السلامة الإنشائية.

190 ألف طلب بالقاهرة 

وكشفت الإحصائيات الصادرة عن محافظة القاهرة، تقديم 190 ألف طلب تصالح، لكن عدد الطلبات التي تمت الموافقة عليها لم يتجاوز 20 ألف طلب .

وأرجعت المحافظة ذلك إلى أن أغلب الطلبات تتعلق بتغيير الاستخدام، وتحويل الوحدات السكنية إلى محلات تجارية، بالإضافة إلى مخالفات الجراجات، وهي ملفات تخضع لتنظيم صارم.

كما أشارت إلى أن العديد من الطلبات تم تقديمها بعد صدور القانون رقم 187 لسنة 2023، حيث يقوم البعض بإحداث المخالفة أولًا، ثم التقدم بطلب التصالح، وهو ما يتعارض مع الضوابط القانونية التي تشترط أن تكون المخالفة سابقة ليوم 17 ديسمبر 2023.

202 ألف طلب بالجيزة

وفي محافظة الجيزة، بلغ إجمالي الطلبات المقدمة حتى الآن 202325 طلبًا، فيما تم البدء في فحص ودراسة 116154 طلبًا، في إطار محاولة تسريع إجراءات التصالح.

ورغم التيسيرات التي تقدمها الحكومة في هذا الملف، لا يزال التطبيق يواجه تحديات كبيرة، مما يطرح تساؤلات حول هل تنجح التعديلات في تقليل العقبات؟ أم أن المشكلة أعمق من مجرد تعديل تشريعي؟

شهادة رئيس غرفة صناعة مواد البناء

ورأى المهندس أحمد عبد الحميد، رئيس غرفة صناعة مواد البناء،   أن قانون التصالح في مخالفات البناء لم يحقق الأهداف المرجوة منه، مشيرًا إلى أن هناك العديد من التحديات التي واجهت تطبيقه على أرض الواقع، وأبرزها التأثير السلبي لبعض المخالفات على البنية التحتية والمرافق العامة.

مخالفات لا يمكن التصالح عليها

وأوضح في تصريحات خاصة للقرار المصري، أن هناك حالات لا يمكن التصالح فيها بأي شكل من الأشكال، مثل مخالفات الجراحات التي ألحقت أضرارًا مباشرة بشبكات المياه والغاز والكهرباء، خاصة في مناطق مثل فيصل والهرم، حيث تم البناء دون الالتزام بالاشتراطات الهندسية، مما أدى إلى ضغط هائل على المرافق وأثر على حياة المواطنين.

فرص التصالح محدودة 

وعلى الجانب الآخر، أشار رئيس غرفة مواد البناء، إلى أن هناك بعض المخالفات التي يمكن دراستها للتصالح، مثل البناء على الأراضي الزراعية التي خرجت عن نطاق الزراعة بالفعل، موضحًا أن التصالح في هذه الحالات قد يسهم في تحريك سوق التشطيبات وزيادة فرص العمل في قطاع البناء.

حلول طويلة الأمد

وأكد أن المشكلة لا تتعلق فقط بملف التصالح، بل تمتد إلى الحاجة لوضع حلول طويلة الأمد لمنع تكرار مثل هذه المخالفات مستقبلاً، وذلك من خلال التخطيط العمراني الجيد، وتوفير بدائل قانونية للبناء، إلى جانب تشديد الرقابة لمنع العشوائية التي تسببت في تفاقم الأزمة.

ويبقى مستقبل التصالح في مخالفات البناء مرهونًا بمدى قدرة الحكومة على تجاوز العقبات الحالية، سواء من خلال إجراءات أكثر مرونة، أو عبر مراجعة شاملة تضمن تحقيق التوازن بين حقوق الدولة والمواطنين.

الرابط المختصر
آخر الأخبار