الدكتور محمد القاضي يكتب.. موسم زراعة الإعلانات

كان هناك جيلًا محظوظًا بحياته البسيطة، محطات تليفزيونية محدودة، ألعاب بدائية بسيطة، بيوت دافئة، بلكونات واسعة ذات مطل على شوارع مليئة بالأشجار، كنا نسعد بتمشية هادئة في شوارع يملئها الظلال صيفًا وتخترقها أشعة الشمس الدافئة شتاءًا، محاطة بأشجار الظل مثل البونسيانا ذات الزهور الحمراء أو الصفراء التي تبدأ في التساقط مع فصل الخريف لتسمح بتسرب أشعة الشمس لتملئ هذه الشوارع بأجواء انسانية لطيفة.

ومع تحول العمران من الفيلات البسيطة التي كانت تشكل عمران مناطق الدقي والمهندسين ومصر الجديدة والزمالك والمعادي تم القضاء تدريجيًا على هذه الأشجار ولجأ قاطني ومسئولي هذه الأحياء لزراعة أشجاراً أخرى تعوض ما تم القضاء عليه وانتشرت أشجار بأنواع مختلفة مثل أشجار الفيكس وأشباهها لا تخلق نفس الروح ولا تضفي الكم المناسب من الظلال، بالإضافة للمشاكل الناتجة من ضخامة الجذور التي تؤثر سلبًا على المحيط من عناصر الأرصفة واللاند سكيب المختلفة.

كان يدور بين العاملين في مجال العمارة والعمران والتنسيق الحضري تساؤلات حول إختيار أنواع الأشجار والزراعات وخصوصًا النجيلة ذات الاستهلاك المرتفع نسبيًا للمياه في ظل أزمات المياه المتوقعة والتكلفة المرتفعة للصيانة، ولم يخطر ببال أشد المتشائمين أن يأتي الهجوم الكاسح لموجات الإعلانات بجميع أشكالها في جميع الأماكن، لتساهم في تغيير الصورة البصرية للمناطق العمرانية في القاهرة وضواحيها والمدن الجديدة والطرق الدائرية من مناطق انسانيه مليئة بالأشجار وأنماط الحياة الطبيعية إلى صورة بصرية مشتتة ومشوهة لا تعكس الطبيعة التاريخية للمدينة أو حتي الصورة الحداثية لها، ووجدنا أنفسنا مضطرين أن نعود لمناقشة البديهيات (لماذا تعتبر الإعلانات بهذا الحجم تشويهًا للبيئة).


من أسعده الحظ بالسفر إلى العواصم المختلفة في العالم لا يمكنه أن يرى هذا الكم من الإعلانات سواء كانت مدينة تجارية أو تاريخية أو سياحية، فما بالنا بمدينة مركزية مثل القاهرة يتجمع فيها كل ما سبق من قيمه.

وجاء مشهد إعلانات اعمدة المونوريل كحصاد لموسم زراعة الإعلانات في القاهرة العزيزة، وما يبعث على الألم هو إضاعة فرصة تحويل المونوريل كوسيلة نقل حديثه تستخدم مصادر الطاقة المتجددة إلى نموذج عالمي لتحويل القاهرة لمدينة إنسانية تهتم بصحة مواطنيها وتهدف إلى تحسين نوعية الهواء وخلق صورة بصرية حديثة للمدينة، نحن لا نختلف حول جودة ألوان أو تصميمات أو تنفيذ الإعلانات وإنما نري فرصًا ضائعة لا تقدر بمال، فكم تساوي عائدات الإعلانات مقارنة بمدينة حضارية تنافس دول العالم وتكمل مجهود الدولة في إنشاء البنية الأساسية وتعكس رؤية مصر في قضايا البيئة والاستدامة.

بقليل من الاجتهاد والتنسيق بين استشاريو المونوريل واللاند سكيب والري المصريين والاستعانة بتجارب مماثلة (مثل الصين وبالأخص مدينة جوانزو) يمكن زراعة نباتات متسلقة حول الأعمدة وكذلك المسافات بين الأعمدة بعد مراعاة مسافات الارتداد المناسبة ووسائل العزل المائي الحديثة لتوفير اقصي درجات الأمان لحماية قواعد واساسات الاعمدة واستخدام وسائل ري متقدمة توفر في المياه وتقلل الفاقد من المياه، ان اجمالي طول خطي المونوريل شرق وغرب النيل يصل الي 98.5 كم اذا تمكنا من زراعتها بعرض يتراوح بين 5 إلى 7 متر يمكننا إضافة ما يقارب 140 فدان من الرئة الخضراء التي تخترق مناطق السادس من أكتوبر والشيخ زايد إلى المنطقة الصناعية وكذلك مدينة نصر عبر القاهرة الجديدة إلى العاصمة الإدارية الجديدة.

إن إضافة 140 فدانًا من المناطق الخضراء يعادل مساحة مركز شباب الجزيرة ونادي الجزيرة مجتمعين، في جميع الأحوال لا تمتلك هذه المدن مثل هذه المساحة في وسط العمران لتحويلها الي حدائق، ويعتبر خلق هذا الشريان الأخضر في وسط المدن ذو أهمية أكبر من البحث عن عائد مالي مباشر لهذا المشروع الضخم، ومع ذلك يمكن إيجاد فرص مماثلة لعوائد الإعلانات حيث يمكن أن يتم طرح القطاعات التي تقع بين المحطات لشركات تتولي تكلفة زراعة وصيانة هذه النطاقات على أن تستغلها باسمها مع وضع بعض الإعلانات الخاصة بها بتصميمات موحدة لا تتعدي عددًا محدودًا في كل قطاع، إن استغلال القطاع لشركة واحدة قد يكون ذو عائد استثماري أكثر ربحية من الأعمدة الكثيرة المتلاحقة.

القضية ليست كيفية تحقيق ربح مباشر من وسيلة خدمية أنشئت في الأساس لخدمة المواطن، إن دور الدولة يتعدى بكثير النظر لتحقيق ربح مباشر من تأجير أعمدة وخلافة، علي الدولة ان تعمل علي انشاء البنية الأساسية المناسبة وتوفير مناخ مناسب للعمل والحياه الكريمة لجميع المواطنين وتوفير الحقوق الأساسية للمواطن، إن توفير المسطحات الخضراء والبيئة المناسبة وتحسين جودة الهواء هو حق من الحقوق التي يستحقها سكان القاهرة الكبرى كإحدى المدن المركزية على مستوي العالم، تنافس كبري المدن التاريخية مثل برشلونة ومدريد وباريس ولندن وتصبح القاهرة كما تستحق أن تكون.

.. وللحديث بقية..

آخر الأخبار