الدكتور محمد مصطفى القاضي يكتب: ما بين اليأس والرجاء

سوف يجئ يوم نجلس فيه لنقص ونروي ماذا فعل كلٌ منا في موقعه، وكيف حمل كلٌ منا الأمانة وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة في فترة حالكة ساد فيها الظلام، ليحملوا مشاعل النور ويضيئوا الطريق حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء”

تجسدت أمامي هذه الكلمات بدقة عندما كان يجلس أبي على سرير مرضه الأخير وهو يعاني من ضعف في الذاكرة وهزالٍ في جسده، يحد من قدرته على الحديث وبالكاد يتذكر أسمائنا ثم يتكئ على يدي ويبدأ حديث ذكرياته عن حرب أكتوبر وهو بطل من أبطالها، في سلاح المهندسين، لتدب الحياه في أوصاله وتكتسي عينيه ببريق كأنه يرى الكباري الطافية فوق سطح قناة السويس وهو يصف تجمع السيارات وهي تعبر القناة وتمر من فوق الكوبري وتصعد إلى الثغرات التي فتحت في الساتر الترابي وهو يذكر حماس الجنود وهو يردد معهم الله أكبر ويدعوا هو والسائق ألا تتعطل السياره على هذا المطلع الحاد حتى لا تتكدس بقية المعدات على الكوبري، ويصبحوا معرضين لضربات مدفعية العدو، كم كان يملؤه الفخر والرضا عن حياته وهو يتذكر كيف كان يسابق الزمن لإصلاح المعدات وهو تحت قصف طائرات العدو، كيف كانت تكفيه زمزية المياه لمدة أسبوع في وقت الحصار ويتذكر تضحيات الجميع كي يبقيهم الفتات على قيد الحياة وسط غارات مدفعية وطائرات العدو.

لم أكن فقط أشعر بالفخر وأنا استمع إليه بل كنت أيضًا أشعر بالغيرة، إن هذا الجيل قد وجد الفرصه ليعمل ويضحي من أجل الوطن، ماذا فعلت في حياتي كي أقصه على أولادي وأنا يملؤني الفخر، هل نحن جيلًا سئ الحظ لأننا لم نمر بمثل هذه الظروف وهذه التحديات؟
الإجابة بالقطع لا، إن لكل جيل تحدياته وظروفه، قد نكون أكثر حظًا من جيلهم، فإن استلهام الدروس من هذه الملحمة قد يكون هو العطاء الحقيقي لهذا الجيل الذي قد يعطينا نموذجًا للتخطيط الدقيق والتفاني والالتزام والأمل في عبور الظروف الصعبة، الذي هو أقوى من الخوف.

إن الدبابة والطائرة والبندقية والحرب ليست فقط هي مجالات التضحية من أجل الوطن، إن لكل زمن أدواته ومفرداته، وإن العلم والعمل والتكنولوجيا قد تكون هي مفردات هذه الأيام، التي يجب على الدوله صياغة إطار لتمهيد الطريق للشباب لإتاحه الفرصه لهم لإثبات وجودهم وتحقيق ذاتهم.

إن مصر الآن أمه فتية، وقودها الشباب الذي يملك من القوة والإصرار والتحدي ما يفوق فقط الصبر على الجوع والظروف الاقتصادية المليئة بالتحديات، إن دور الشباب هو الإبداع والعمل ثم العمل ثم العمل، ولكنهم يبحثون عن الإطار الذي يمكن أن يساهموا فيه لتحقيق النجاح للوطن وإثبات الذات، ويصبح لكل فرد حكاية يجلس ليتفاخر ويتباهى كل منهم في موقعه، وينقل بدوره الخبرات والدروس إلى الأجيال القادمة، هكذا تسري روح أكتوبر للأبد في جسد وعقل مصر، لطالما ظل هذا الوطن شامخًا أمام التحديات بسواعد وعقول أبنائه.

قد تكون التحديات الحالية حافزًا للجيل الحالي للتحرك وتذليل الصعاب والعبور للمستقبل سائرين على خطا أبائهم وأجدادهم، ودافعًا لاقتحام المستحيل الذي كان يومًا حائلًا بينهم وبين أرض وطنهم.

آخر الأخبار