جاء طرح هيئة التنمية الصناعية لكراسة شروط رخصة تصنيع السجائر للمرة الثالثة خلال نفس العام دون تغييرات ذات اهمية ليكشف عن حالة عدم اليقين التي تسيطر على مستقبل سوق صناعة السجائر في مصر.
وبداية.. يجب الإشادة بجهود الدولة لفتح المجال الاقتصادي أمام الاستثمارات الخاصة وتشجيع التنوع في البنية الاقتصادية المصرية خاصة في المجالات الجاذبة لرؤوس الأموال ويأتي علي رأسها سوق السجائر.
الشركة الشرقية للدخان
يتميز هذا السوق بأن له طبيعة خاصة في مكوناته واهدافه أولها أن الشركة الشرقية للدخان هي أحد أكبر شركات تصنيع السجائر في العالم وتحتل المركز السادس عشر وفي بعض الاحصائيات المركز الخامس عشر عالميا وهو ما يفرض دراسة الاثار المتوقعة لطرح رخص منافسة لها بشكل متكامل ماليًا واكتواريًا.
إن الشركة الشرقية للدخان وإن كانت هي المصنع الوحيد في مصر إلا أنها لم تكن محتكرة في أي وقت وهو ما يتوافق مع القانون والواقع فمن الناحية القانونية فإنن امتلاك حصة حاكمة من وسائل الانتاج أو السوق لا يُعد دليلاً علي الاحتكار إلا إذا ارتبط بممارسات احتكارية وهو مالم يحدث في أي وقت من الأوقات، وهو ما يؤكده الواقع أيضا فالشركة الشرقية يعمل من خلالها عدة شركات أجنبية وتطرح عشرات المنتجات في كل الفئات السعرية ومنها منتجات منافسة لمنتجاتها، وهو الأمر المستقر منذ أكثر من ربع قرن وحتي الحصة السوقية الضخمة للشركة الشرقية ترتبط باعتبارات دورها الاجتماعي لتوفير سجائر بأسعار في متناول جميع الفئات خاصة منخفضة ومحدودة الدخل وهو الدور الذي تحرص الدولة نفسها علي التزام الشركة الشرقية للدخان وهو نفسه الدور الذي لا تستطيع ولا ترغب الشركات المنافسة القيام به.
والأكثر من ذلك وبشهادة اللاعبين الرئيسين في السوق فإن مصانع الشرقية للدخان قد شهدت تحديث وتطوير مستمر بما يتناسب ومستويات الجودة لمنتجات الشركات الاجنبية التي تصنع علي خطوطها.
من ناحية أخرى.. كان حصر عملية التصنيع المحلي لأي منتج بمصانع الشرقية للدخان هو أكبر ضمان لاستيفاء مستحقات الخزانة العامة للدولة بشكل كامل ودون أي تهرب وهي أرقام مهولة تتخطى الـ 75 مليار جنية أي أنها تقترب من دخل قناة السويس بل تزيد بإضافة جمارك الدخان وعدد من الضرائب النوعية الأخرى وللشهادة والتاريخ فإن الشركة الشرقية علي مدار ما يقرب من الثلاثين عاما لم تتدخل في أعمال أي من الشركات المصنعة لديها سواء في انواع المنتجات أو الكميات أو الأسعار ولا يستطيع أي طرف أن ينكر ذلك بل أنها كثيرًا ما ساعدت في حل المشكلات والتحدث مع الحكومة نيابة عن الجميع بل أن هناك العديد من خطابات الشكر التي كانت ولا زالت تقدم بشكل شبه دوري للشركة الشرقية للدخان هي جودة التصنيع وكفاءة الإدارة والدور الداعم للشركاء الأجانب.
المواطن مستثمراً
من المعروف أن 49% من أسهم الشركة الشرقية للدخان مطروحة بالبورصة يملكها مستثمرين سواء أفراد أو مؤسسات وحتي النسبة الباقية هي في نهاية المطاف ملك الدولة والوطن وبالطبع فإن أي تغير في سوق السجائر وخريطة التصنيع سيكون له إنعكاس كبير على هذه الاستثمارات وهذه أيضًا تحتاج دراسة لتقييم الأثار السلبية المحتملة في معادلة للفرص البديلة مع قياس شامل للمخاطر والعوائد بشكل اقتصادي بحت فليس من المتصور ان تنهار قيمة هذه الاستثمارات بالتوازي مع ظهور منافس وحيد اخر يتمتع بمزايا تفضيلية (احتكار صناعة البدائل الإلكترونية).
المواطن مستهلكاً
أما عن المواطن كمستهلك فإن نسبة 75% من المدخنين في مصر هم من عملاء الشركة الشرقية للدخان وينتمون الي الشرائح الاجتماعية الاقل دخلا و إلي أسر من ذوي الميزانيات المجهدة بشكل كاف، وهؤلاء كانت الشركة الشرقية تضعهم دائما نصب أعينها في افضل ترجمة تطبيقية لمفاهيم الدور الاجتماعي للشركات الكبري بشكل عملي وليس مجرد شعارات أو مسرحيات تمثيلية رديئة وهو الدور المكمل لعناصر الامن الاقتصادي للمواطن.
وهنا يجب أن نأخذ في الحسبان الآثار المتوقعة علي مدار السنوات القادمة في المستقبل المتوسط والبعيد وإلى أين سيصل سوق السجائر إذا ما إهتز أو تراجع دور الشركة الشرقية بفعل توسع نفوذ الاخرين وعدم القدرة علي توقع الضوابط الحاكمة لتداخلات السوق مستقبلًا.
وفي ضوء التحليل السابق لأطراف السوق ودون الدخول في الملاحظات التي تحدث عنها الكثيرين بشان كراسة الشروط والتي لا ارغب في التطرق اليها لان ذلك يجب تناوله في سياق اخر إلا أن هناك ملاحظتين لابد من ذكرهما لارتباطهم بالمصلحة الوطنية العليا:-
الملاحظة الأولى والتي لا أستطيع أن أمنع نفسي من التطرق اليها وهى ظاهرة بمجرد الاضطلاع على كراسات الشروط الثلاثة هى أنه من غير اللائق أن تظهر هذه الكراسات وكأنها مفصلة لشركة بعينها فهذا لا يليق باسم مصر وحجمها واقتصادها فقيمة اقتصادنا ودولتنا أسمى من أن يتم التعامل معها بهذا الشكل وأعلم أن هذه الملاحظة قد يري فيها البعض مبالغة ولكني لا أجد أي حرج في الاعتزاز بوطني وبلدي في أي موقف وأمام أي كائن آخر.
أما الملاحظة الثانية أنه بالقياس على التجارب المماثلة لبيع حصص في شركات قائمة ومنتجة أو رخص تصنيع فإن أقرب التجارب هي التجربة الأثيوبية حيث تم بيع حصة قدرها سبعين في المئة من الشركة الأثيوبية التي تنتج 11 مليار سيجارة وقياساً عليها فإن ما تطرحه كراسة الشروط من ترخيص إنتاج 50 مليار سيجارة يجب أن لا يقل عن خمسة مليار دولار وقياساً علي الحصة السوقية لأكبر شركة بعد الشرقية للدخان في السوق المصري فإن سعر الرخصة الجديدة لا يجب أن يقل عن إثنين مليار دولار وقياساً على الفرصة البديلة للخسائر المحققة من عوائد الشركة الشرقية للدخان مقابل حق التصنيع الحالي فإن السعر لا يجب أن يقل عن مليار وثماني مائة مليون دولار، وفي كافة التقديرات السابقة والتي لا تشمل قيمة ترخيص تصنيع البدائل الإلكترونية من سجائر التسخين والسائل الإلكتروني نحن أمام قيمة ترخيص لا يجب أن تقل عن إثنين مليار دولار وهو سعر ضخم يقصر المنافسة علي الأربعة العمالقة الكبار في سوق التبغ عالمياً وبخلاف ذلك سيتم إهدار قيمة الصفقة لبضعة مئات من الملايين وهو ما لا يقبله ضمير أي وطني شريف.
بدائل استراتيجية
وحتي أكون عمليا فسأقدم طرح بديل يحقق اهداف الدولة ويضمن الحفاظ علي المكاسب التاريخية والمادية والاجتماعية لسوق السجائر بوضعه الراهن هذه الاستراتيجية تعتمد علي محورين من عده نقاط..
المحور الأول :
بالنسبة لطرح رخص جديدة فان هذا اتجاه جيد ومطلوب ان تعمل الدولة علي اتاحة المزيد من الفرص امام الاستثمارات الخاصة المصرية والاقليمية والعالمية خاصة في القطاعات الناقلة والموطنة للتكنولوجيا ومنها بالطبع صناعات بدائل التدخين الاليكترونية لكن في قطاع شديد الحساسية والاهمية وهو ما يتطلب من وجهة نظري الاتي:
أولاً: أن يتم الاشراف علي هذا الملف من مجلس الوزراء لأنه كما ذكرت يرتبط بأحد اكبر مصادر ايرادات الخزانة العامة للدولة.
ثانياً: أن يتم تحت هذا الاشراف تشكيل لجنة تمثل فيها الهيئات الحكومية (المالية – الصناعة- التجارة – الجهات الرقابية) والشركة الشرقية للدخان وشعبة الدخان باتحاد الصناعات.
ثالثاً: إلغاء اي طرح لتصنيع السجائر التقليدية.
رابعاً: اقتصار الطرح علي رخصتين رخصة تصنيع سجائر التسخين ورخصة تصنيع السائل الإلكتروني وكلاهما تكنولوجيا جديدة نحتاج لتوطينها بالفعل وتسعي كافة الشركات العالمية للاستثمار فيها وتشكل بالنسبة لها الفرص المستقبلية الواعدة.
خامساً: اقتصار التقدم لهذه الرخص علي الشركات العالمية أو المحلية ذات الاستقلال الفعلي ومنعها علي الوسطاء المحليين او الإقليمين لمنع أي استغلال محتمل كما حدث في تجارب عدة في دول مجاورة.
سادساً: منع تمويل الصفقة من البنوك المصرية وأن يتم التمويل من مصادر خارجية أو ذاتية.
سابعًا: من المنطقي منح الشركة الحاصلة علي الترخيص على فترة حماية مناسبة يتم بعدها فتح السوق أمام الآخرين.
ثامنًا: حظر أي استغلال أراضي ومقومات الشركة الشرقية للدخان.
تاسعاً: أن يتم منح الشركة الشرقية للدخان نسبة مجانية غير مدفوعة من ملكية الشركة الجديدة الحاصلة علي الترخيص كشرط إتاوة جبرية من 15 إلى 24%.
المحور الثاني: الاستثمار للخارج
كما ذكرت فان الشركة الشرقية للدخان تحتل المركز 15 أو 16 عالميًا ..ومحليًا هي من أكثر الشركات الحكومية أرباحاً.. وإذا كنا نسعى جدياً لتطوير أعمالها لماذا لا نتحرك برؤية استراتيجية خارج الصندوق وهي رؤية تتلخص في النقاط التالية ؛-
– أن يتم تعديل أهداف الشركة لتشمل الاستثمار في الأسواق الخارجية وخاصة الأفريقية.
– أن يتم وضع هدف تحولها لواحد من الخمسة الكبار عالميًا في مجال صناعة التبغ بأنواعه.
– الشركة تملك من المؤهلات والخبرات الفنية والامكانيات المالية ما يجعلها قادرة علي التحرك بقوة في هذ الاتجاه وتحقيق نتائج ضخمة خلال فترة وجيزة.
– هناك الكثير من الأسواق الراغبة في تلقي استثمارات من هذا النوع وخاصة في الاسواق الافريقية والتي تملك فيها الدبلوماسية المصرية خبرة اقتصادية كبيرة للمساعدة في هذا الشأن.
– ولعلها تشكل فرصة لتصبح الشركة الشرقية للدخان أحد أدوات القوة الاقتصادية الناعمة لمصر في المحيط العربي والأفريقي.
بهذا التصور نكون قد فتحنا المجال للاستثمار في صناعة السجائر وحافظنا علي الشركة الشرقية للدخان ككيان يمثل أحد أهم إيرادات الخزانة العامة للدولة مع الاستثمار الأمثل لكافة مقوماتها كشركة رابحة وشريك محتمل للمستثمر الجديد وحافظنا علي مصالح صغار المستثمرين والأهم على استقرار موازنة الأسرة المصرية والأهم أن يعلم الجميع أن مصر بحضارتها وتاريخها وجمهوريتها الثالثة قوة لا يمكن التلاعب بمقدراتها خاصة مع ما حققته من نجاحات اقتصادية ضخمة خلال السنوات القادمة لتحيا مصر.. دائمًا وأبداً.