الدكتور مصطفى القاضي يكتب: المادة صفر

لا أستطيع التعامل مع القتل سواء نساء أو رجال، أطفال أو عجائز، بغض النظر عن الجنسية والديانة، اكتأبت عندما كنت أسمع عن مجازر البوسنه والهرسك، العراق وإيران، مذابح رواندا، لازلت لا أستطيع استيعاب التطهير العرقي لسكان أمريكا الأصليين وغيرهم في أستراليا ونيوزلندا، وفكرة أنهم يستبدلونهم بعرق أكثر تطورًا، والهولوكوست في ألمانيا، وغيرها من مظاهر استعراض القوة لأي عرق أو جماعة، ويظل بالنسبة لي القتل هو القتل، والإبادة هي الإبادة والعنصرية هي العنصرية.

كان ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية بمثابة الثمن الذي دفعته الإنسانية في العصور الحديثة لمعرفه أن الحرب والقتل دائرة لا نهائية، تنحدر بالإنسانية بعيدًا عن كل الصفات الراقية التي تتصف بها، بل إلى صفات لا ترتقي أن تنتمي إلى مملكة الحيوانات التي في الغالب لا يتقاتل فيها أبناء النوع أو الفصيلة الواحدة، إلا من أجل الطعام والبقاء على قيد الحياة.

وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 كثمرة غالية دُفع ثمنها من دم ضحايا السياسة وأحلام السيطرة وفرض النفوذ لبعض قادة العالم في ذلك الوقت، جاء ليبرز الحقوق الأساسية للإنسان، الحقوق الطبيعية البديهية التي تأخرت الإنسانية كثيرًا للاتفاق عليها، مثل الحق في الحياة والحق في المساواة والحرية والأمان والسكن والعلاج، وتوالى ذكر البنود الراقية واحدًا تلو الآخر ولكن يبدو أنهم لم يعلنوا المادة رقم صفر أو المادة الفوق دستورية التي تجب ما بعدها وتلغي كل ما لا يتسق مع أصحاب المصلحة.

وتقول هذه المادة، “المادة رقم صفر: جميع الناس متساوون، ولكن هناك من هم أكثر تساويًا”.

هذه المادة الخفية كفيلة بتبرير ما يحدث من حصار وقتل وتطهير عرقي وعقاب جماعي لمجموعة من البشر، طالما لم يكونوا من الأهل والعشيرة، هل يمتلك المتمرسون خلف قوانين حقوق الإنسان تبريرًا أو مخرجًا للسكوت على ما يحدث للفلسطينيين في غزة؟، هل تعلم الدول الداعمة لحقوق الإنسان أن ما يحدث قد يكون إعلانًا غير رسمي لنهاية الإعلان العالمي لحقوق الانسان؟، كيف ستحدثنا هذه الدول عن حقوق الإنسان مرة أخرى؟، أقول هذا وأنا أعلم أنهم ودون خجل سيتحدثون مرة أخرى عن حقوق الإنسان الانتقائية فورًا، فهذا ما حدث بعد مجازر التطهير العرقي في البوسنه والهرسك التي كانت بالنسبة لأجيالنا ما يشبه نهاية منظومة القيم الغربية لحقوق الإنسان التي ما لبثت أن ارتدت أوجهًا أخرى كثيرة كأن شيئًا لم يكن.

ما هو الثمن السياسي أو الاقتصادي الذي يساوي أن تشاهد أطفالك يُقتلون أمام عينك من دون ذنب ارتكبوه أو جرم ارتكبته أنت؟، كيف يمتلك شخص حق سلب الحياة من إنسان لمجرد أنه امتلك القوة لذلك؟، وكيف يجرؤ المسئولون عن السكوت على هذه المحرقة لمجرد أنهم لا ينتموا لعرقهم أو دينهم أو بينهم خلاف أيديولوجي؟

إن شعوب المنطقة كأي شعب آخر تستحق الحياة في سلام وأمان، ويستحق الناس فيها أن يروا أطفالهم يحصلون على مستوى تعليم مناسب ورعاية صحية سليمة وحياة طبيعية مثل باقي العالم، ويرى الأجداد أحفادهم يكبرون أمام أعينهم دون خوف من المستقبل أو أن يأتي حاكم نرجسي مريض أو جماعة ساعية للسلطة ليقذفوا على رؤوسهم قنابل وصواريخ تقضي على أحلامهم وحياتهم.

لا نملك حاليًا غير الدعاء، ليس للضحايا وأهلهم فقط فهم بالتأكيد تحفهم رحمة الله من كل جانب، ولكننا ندعو أن ينير الله بصيرة من يملكون القوة، هم وشعوبهم، أن يفيقهم الله من غرور القوة وأنه آن الأوان ليتمتع الجميع بالحق في الحياة، لأن أسوأ ما يواجه الإنسان هو الشعور بالظلم والقهر وفقدان الأمل.

آخر الأخبار